فخري صالح

على المؤسسة الجامعية الأردنية أن تعيد التفكير في دورها لكي لا يسوء حالها أكثر فأكثر. فهذا العنف الجامعي والشغب وتكسير قاعات التدريس، واعتداء الطلبة على بعضهم بعضا باستخدام أسلحة نارية وحادة، يعني أن برامج التعليم الجامعي بحاجة إلى إعادة تأهيل ونظر، لكي يكون في إمكان الجامعة تحقيق نوع من السلم الأهلي داخلها. لقد استشرت ظاهرة العنف الجامعي خلال السنوات الأخيرة، وطالت عددا كبيرا من الجامعات الأردنية، الحكومية والخاصة، وصار دور عمادات شؤون الطلبة هو فض الاشتباكات التي تندلع بين الطلبة، على خلفيات عشائرية أو جهوية، أو حتى على خلفية التراشق بالثلج في يوم أبيض كان ينبغي أن يشيع في نفوس الطلبة الجمال والسكينة بدلا من أن يؤدي إلى تضارب بالأيدي وإطلاق نار وتحطيم للكليات وقاعاتها، كما حصل في اليومين الماضيين في الجامعة الأردنية، التي هي المؤسسة الأكاديمية الأم.

هذا يعني أن التوتر، الذي يعصف بالمجتمع، طال منذ سنوات المؤسسة الأكاديمية ولبّد غيوما سوداء بين أسوارها، ولم يعد التعليم كافيا لتهذيب نفوس الطلبة وإدراجهم في هوية أوسع من انتماءاتهم العصبية الضيقة التي تحرك سلوكياتهم داخل أسوار الجامعية وخارجها، ما ينتج مجتمعا مشوها تمزقه الصراعات والعصبيات والعنف الذي يتسرب إلى كافة شرائحه ومكوناته.

دور الجامعة في هذه الحالة يتمثل في إعادة تكييف برامجها لكي تستطيع التخلص من هذه الظاهرة التي أصبحت داء عضالا ينهش المؤسسة الأكاديمية والمجتمع الذي وجدت هذه المؤسسة لخدمته. المؤسف أن الجامعة قلصت صلتها بالمجتمع، وقد كانت من قبل، إضافة إلى التعليم وتأهيل الدارسين لدخول سوق العمل، مؤسسة ثقافية كبيرة يتخرج فيها رسامون وموسيقيون وممثلون مسرحيون وأدباء وشعراء وروائيون وباحثون كبار. وقد ساعدت المؤسسة الجامعية المعنية بتثقيف الطلبة وإشراكهم في النشاطات اللامنهجية، الفنية والثقافية والرياضية، في إفساح المجال للطلبة للكشف عن مواهبهم وساعدتهم في تنميتها من خلال الاستعانة بمشرفين في الرسم والرياضة والفنون ودائرة مسرح جامعي طلع من بين ظهرانيها مواهب مسرحية أردنية كثيرة. لكن ما أضعف المؤسسة الجامعية، وحولها إلى ما آلت إليه، هو التدخلات الخارجية وتغليب الدور الأمني على الدور التثقيفي التعليمي، وتحويل الجامعات إلى مجرد مزرعة لتفريخ الخريجين.

لا يصلح حال الجامعة في الأردن سوى عودتها إلى دورها الثقافي الذي اضطلعت به من قبل. وعلى إدارات الجامعات الأردنية المختلفة أن تدرك أن الشهادات التي تمنح للطلبة ليست هي نهاية المطاف. الطلبة والمجتمع بحاجة إلى ترسيخ هوية أوسع، هوية وطنية قومية إنسانية تتجاوز العصبيات الضيقة، العشائرية والقبلية والمناطقية. ولا يمكن أن برسخ هذه الهوية سوى تعليم الطلبة وتثقيفهم ودمجهم في المحيط الجامعي حتى لا يشعروا بهذا الخواء الكبير الذي ينهشهم في مؤسسات أكاديمية تحولت إلى التلقين الببغاوي أو على الأقل إلى الاكتفاء بالتعليم المنهجي دون ترويح عن أرواح الطلبة التي أزهقها جفاف المؤسسة الأكاديمية وإدارتها الظهر لمهمتها التثقيفية الرديفة.

أنا أعرف أن جذور العنف الجامعي قائمة في مناطق أخرى غير الجامعة، في البنية المجتمعية، في التفاوت الاقتصادي الذي ولّده الفساد وإهمال الدولة لدورها في استتباب السلم الأهلي: السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في كبت طاقات المجتمع واللجوء إلى نوع خطير من الهندسة الاجتماعية التي ينمو في باطنها التفاوت والتمايز واللجوء إلى أحضان العصبيات الضيقة. لكن دور المؤسسة الجامعية كبير في التخفيف من هذه الاحتقانات الخطيرة التي تعصف بمجتمعنا ولا تبشر بالخير. كما أن قيام الجامعة بدورها التثقيفي وعودة دورها المجتمعي كما كانت في الستينيات والسبعينيات، قبل أن يختطف هذا الدور، مرهون بقرار سياسي يعطي الدور لأكاديميين أكفاء يعرفون كيف يديرون جامعات تمزج بين التعليم والتثقيف، ولا تعزل نفسها داخل الأسوار الخانقة.

جريدة الدستور